توضح د. سنية فيصل الحسيني في مقال نشره ميدل إيست مونيتور أنّ الاحتلال الإسرائيلي لم يعد قائمًا فقط على الجنود والحواجز والجدران الإسمنتية، بل أصبح سيبرانيًا يعتمد على شبكات مراقبة رقمية متطورة تُخضع حياة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس لمراقبة شاملة تُحدد تفاصيل يومهم وحتى مصيرهم. وتشير الكاتبة إلى أن اغتيال الصحفيين قرب مستشفى الشفاء في غزة، مثل غيره من الاستهدافات الدقيقة، يجسد هذا النظام القائم على الدمج بين سياسة الاغتيالات القديمة وأدوات الرقابة التكنولوجية الحديثة.
وتذكر ميدل إيست مونيتور أنّ الحرب على غزة كشفت حجم هذه المنظومة، حيث لم تعد الضربات بالطائرات المسيّرة حوادث معزولة، بل نتاج منظومة مراقبة دؤوبة تعتمد على تعقّب الأفراد عبر تقنيات تحديد المواقع والذكاء الاصطناعي. وفي غزة يلاحق صوت "الزنانة" حياة الناس في الأسواق والحقول والمدارس، بينما في الضفة الغربية يتجسد الاحتلال في كاميرات عالية الدقة، وتقنيات التعرف على الوجوه عند الحواجز، ورقابة على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يجعل حياة الفلسطينيين محاصرة بعين لا تنام.
وتوضح الكاتبة أنّ هذا النظام لم ينشأ اعتباطًا، بل بُني عبر تعاون وثيق بين وحدات الاستخبارات الإسرائيلية وشركات التكنولوجيا الخاصة التي يقودها ضباط سابقون، إضافة إلى مختبرات بحثية في إسرائيل والولايات المتحدة. منذ بداية الألفية، عملت إسرائيل على ترسيخ موقعها كقوة تكنولوجية عالمية، لتصبح اليوم قوة سيبرانية تُصدّر الطائرات المسيّرة وأنظمة المراقبة التي طُوّرت في فلسطين إلى حكومات حول العالم.
في غزة، تهيمن المسيّرات على الأجواء لملاحقة الأشخاص وتحديدهم وتنفيذ الاغتيالات عند صدور الأوامر. وفي الضفة، يستخدم المستوطنون الطائرات لمراقبة البناء الفلسطيني، خصوصًا في المناطق المصنفة "ج"، بما يؤدي إلى أوامر هدم تخنق أي إمكانية للتطور العمراني. ويقف وراء ذلك بنية تحتية معقدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لجمع بيانات شخصية هائلة من اتصالات هاتفية، وأنماط حركة، ونشاط على شبكات التواصل، ثم تحويلها إلى إنذارات عسكرية وخطط استهداف.
ويشغل جهاز الشاباك منصاته الخاصة التي تعتمد على التنصت واختراق الأجهزة ومراقبة الإنترنت ومحتوى وسائل التواصل. ومنذ السابع من أكتوبر، تضاعف هذا النشاط حتى صار الفلسطينيون يعتقلون بسبب الاحتفاظ بصورة لغزة على هواتفهم داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
وتتعدى السيطرة البيانات إلى البنية التحتية نفسها، إذ يخضع الفلسطينيون لشبكات اتصالات محكومة بالسيطرة الإسرائيلية، ما يمنح الأجهزة الأمنية منفذًا مباشرًا للمكالمات والرسائل والمواقع الجغرافية. كما تُستخدم برمجيات تجسس مثل "بيجاسوس" القادرة على تفعيل كاميرا الهاتف أو ميكروفونه سرًا وجمع ملفات وصور ومقاطع فيديو حتى بعد حذفها.
في الضفة، تُحدد أنظمة التعرف على الوجوه عند الحواجز مصير العابرين، فيمر البعض ويُحتجز آخرون. وفي القدس والخليل، تغطي كاميرات عالية الدقة الساحات والأزقة، تراقب الوجوه ولوحات المركبات وتبث الصور إلى غرف تحكم مركزية تُخزن وتُفهرس وتُستدعى في أي لحظة. بينما تناقش الحكومات في العالم أخلاقيات هذه التقنيات، تُطبق في فلسطين بوصفها أدوات حرب مكتملة الاستخدام.
وتبرز الكاتبة أنّ الاحتلال لم يعد مجرد جدران مادية، بل تحول إلى سجن سيبراني بلا حواجز مرئية، يقيّد ملايين الفلسطينيين ضمن شبكة من أجهزة الاستشعار والخوارزميات. لم تعد البيانات تُجمع فقط، بل صارت تُسلّح لتقرر من يسافر ومن يعمل ومن يُعالج ومن يُحرم من العلاج. وكلما تعمق هذا النظام، ازداد ارتباط حقوق الفلسطينيين الأساسية بقرارات خوارزميات باردة.
وترى د. الحسيني أن الفلسطينيين يعيشون اليوم على خريطتين: واحدة مرسومة بالحواجز والجدران، وأخرى خفية تتكون من نقاط بيانات ومسوح بيومترية. الخروج من أي منهما يكاد يكون مستحيلاً. فعندما يملأ صوت المسيّرات سماء غزة أو تحدق العدسات الذكية في وجوه العابرين بالخليل، تتجسد جدران الاحتلال السيبراني غير المرئية التي تخنق الفضاء الفلسطيني وتعيد إنتاج السيطرة بشكل متواصل.
وتخلص الكاتبة إلى أنّ هذا النظام الرقمي يشكل تهديدًا مباشرًا لمستقبل الفلسطينيين، إذ يربط حاضرهم ومستقبلهم بخوارزميات مراقبة تقرر تفاصيل حياتهم. فالحرية في فلسطين لم تعد مسألة حدود ملموسة، بل مسألة كود رقمي يحدد إن كان الفرد سينعم بحقوقه أو يعيش سجينًا داخل أسوار لا تُرى.
https://www.middleeastmonitor.com/20250818-the-invisible-walls-of-israels-cyber-occupation/